قــــصص مــن الواقـــع
أنها طويلة قليلاً خصوصاً وأنا في عهد السرعة ...ولكن صدقوني أنها مبكية ....
1. بداية:-
ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئا ً ،فلبث فيها بضع سنين ،ثم عاد ومابقي مما كنا نعرفه منه شيء.
ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها ، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة .
وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر ،وعاد بقلب مُلفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض ،وساكنها ، والنقمة على السماء وخالقها.
وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها ، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ، ولا تلقي نظرة واحدة على ماتحتها.
وذهب برأس مملوءة حكماً ورأياً،وعاد برأس كرأس التمثال المُثقب لا يملؤها الا الهواء المتردد.
وذهب وما على وجه الارض أحب اليه من دينه ووطنه ،وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما .
وكنت ارى ان هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم انما هي اصباغ مفرغة على أجسامهم افراغاً لا تلبث ان تطلع عليها شمس المشرق حتى تتصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء ،وأن مكان المدنية الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة ،اذا انحرف عنها زال خياله منها، فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق ، ولبسته على علاته وفاء بعهده السابق ، ورجاء ً لغده المنتظر ، محتملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ، مالا طاقة لمثلي باحتمال مثله، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب ، فكانت آخر عهدي به.
2. تغير:-
دخلت عليه فرايته واجماً مكتئباً فحييته ، فأومًا الي بالتحية ايماء ، فسألته : ماباله؟
فقال: مازلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ، ولا ادري مصير أمري فيه.
قلت: واي امرأة تريد؟
قال : تلك التي يسميها الناس زوجتي ، وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي .
قلت : انك كثير الآمال ياسيدي ، فعن أي آمالك تُحدث؟
قال : ليس لي في الحياة الا أمل واحد هو أن أغمض عيني ثم أفتحهما فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد.
قلت: ذلك مالا تملكه ولا رأى لك فيه.
قال:ان كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى ،ولا يحول بينهم وبين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن الى الرجال يُجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلُم بنفس الشرقي كُلما حاول الاقدام على أمر جديد فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً،وان يتم على يدي مالم يتم على يد احد غيري من دعاة الحرية واشياعها ، فعرضت الامر على زوجتي فأكبرته وأعظمته وخُيل اليها انني جئتها باحدى النكبات العظام والرزايا الجسام ، وزعمت أنها ان برزت الى الرجال فا نها لا تستطيع أن تبرز الى النساء بعد ذلك حياء منهن وخجلاً ، ولا خجل هناك ولا حياء ، ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينتقلن من مقبرة الدنيا الى مقبرة الآخرة ، فلا بد لي أن أبلغ امنيتي ، وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين: اما بكسره أو بشفائه!!
3. مقابلة:-
فورد على من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً،ونظرت اليه نظرة الراحم الراثي وقلت:
أعالم انت أيها الصديق ماتقول؟
قال : نعم ،أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت.
قلت: هل تاذن لي أن اقول لك انك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم ،فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شئ مما لاتملك يمنيك من اعراض نسائهم فنلت ماتطمع فيه من حيث لايشعر مالكه .
قال: ربما وقع لي شئ من ذلك فماذا تريد؟
قلت: أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يُلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك!
قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد اليه المطامع .
فتداخلني مالم أملك معه وقلت له:
تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان ايها الضعفاء ، والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها الى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم، فالشرف كلمة لا وجود لها في قواميس اللغة ومعاجمها ، فان أردنا ان نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها ، والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لايزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر ، فإذا هو مستنقع كدر، والعفة لون من ألوان النفس، لا جوهر من جواهرها ،وقلما تثبت الألوان على اشعة الشمس المتساقطة .
قال : أتنكر وجود العفة بين الناس ؟
قلت : لا أنكرها ،لأني أعلم أنها موجودة بين البله الضعفاء والمتكلفين؛ولكني انكر وجودها عند الرجل القادر المختلب ،والمرأة الحاذقة المترفقة اذا سقط بينهما الحجاب، وخلا وجه كل منهما لصاحبه.
في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم؟!
أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة :لم لم يتزوج؟فأجاب :نساء البلد جميعاً نسائي!
أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه خجلاً ان خلت محفظته يوماً من الايام من صور عشيقاته وخليلاته أو أقفرت من رسائل الحب والغرام؟
أم في جو الرعاع والغوغاء ، وكثير منهم يدخل البيت خادماً ذليلاً ، ويخرج منه صهراً كريماً؟.
وبعد:
فما هذا الولع بقصة المراة ، والتمطق بحديثها ، والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها ،وحريتها وأسرها ، كأنما قد قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم ، فلم يبقى الا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم.
هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم ، فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز .
أبواب الفخر أمامكم كثيرة ،فاطرقوا أيها شئتم ،ودعوا هذا الباب موصداً، فانكم ان فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً وشقاء طويلاً.
4. عفة:-
أروني رجلاً ، واحداً منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي أمراه يرضاها،فأصدق أن امراة تستطيع ان تملك هواه بين يدي رجل ترضاه.
انكم تكلفون المراة ما تعلمون انكم تعجزون عنه ،وتطلبون عندها مالا تعرفونه عند انفسكم ،فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون:أتربحونها من بعدها أم تخسرونها ،وما أحسبكم الا خاسرين!
ماشكت المرأة اليكم ظلماً ،ولا تقدمت اليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من اسرها ،فما دُخولكم بينها وبين نفسها ؟وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟
انها لا تشكو الا فضولكم واسفافكم ، ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيثما سارت وأينما حلت ،حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلاً الا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها اهلها ،فأوصدت من دونها بابها ،وأسبلت أتارها ، تبرماً بكم وفرار من فضولكم ، فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها!
انكم لاترثون لها ، بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبروجاً وسفوراً ،ويتدفق خلاعة واستهتاراً،وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك.
لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء ،فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقباً والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض ، وتكرش ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تُريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة.
5. وسوسة:
عاشت المراة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها ، راضية عن نفسها وعن عيشها،ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها ،أو وقفة تقفها بين يدي ربها ، أو عطفة تعطفها على ولدها ،أو جلسة تجلسها الى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها،وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ،ونزولها عند رضاهما ،وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام ،فتحب زوجها لانه زوجها ، كما تحب ولدها لأنه ولدها ،فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي ان الزواج أساس الحب .
فقلتم لها: ان هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا افضل رأياً ، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك ،فازدرت أباها ، وتمردت على زوجها ،وأصبح البيت الذي كان بالامس عُرساً من الأعراس الضاحكة مناحةً قائمةً لا تهدأ نارها ،ولا يخبو أوارها .
وقلتم لها :لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك، حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها ، فلم يزد عُمر سعادتها على يوم وليلة، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الاليم .
وقُلتم لها : ان الحب اساس الزواج ، فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مُصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فعُنيت به عنه!
وقلتم لها :ان سعادة المراة في حياتها ان يكون زوجها عشيقها ،وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق ،فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يُحي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم .فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت.
وقلتم لها: لابد أن تتعلمي لتحسيني تربية ولدك ، والقيام على شؤون بيتك ،فتعلمت كل شئ الا تربية ولدها ، والقيام على شؤون بيتها.
وقلتم لها : نحن لانتزوج من النساء الا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا ، وشعورها شعورنا، فرأت أن لابد لها ان تعرف مواقع أهوائكم ، ومباهج أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون ، فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم ترى فيه غير اسماء الخليعات المستهترات ، والضاحكات اللاعبات ، والإعجاب بهن ،والثناء على ذكائهن وفطنتهن ، فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم ، وتنزل عند محبتكم ، ثم مشت اليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً ،كما تعرض الامة نفسها في سوق الرقيق ، فأعرضتم عنها ونبوتم بها ، وقلتم لها : انا لا نتزوج النساء العاهرات ،كأنكم لا تبالون ان يكون نساء الامة جميعاً ساقطات اذا سلمت لكم نساؤكم ، فرجعت ادراجها خائبةً منكسرة وقد اباها الخليع ، وترفع عنها المحتشم ، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت!!
6. اصلاح:
وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الامة جميعاً وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها ، فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما ،وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات!
ذلك بكاؤكم على المراة ايها الراحمون ، وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها !
نحن نعلم كما تعلمون ان المراة في حاجة الى العلم –فليُهذبها أبوها او أخوها ، فالتهذيب انفع لها من العلم- والى اختيار الزوج العادل الرحيم ، فليحسن الآباء اختيار الازواج لبناتهم وليُجمل الازواج عشرة نسائهم ، والى النور والهواء تبرز اليهما وتتمتع فيهما بنعمة الحياة ، فليأذن لها اولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحتها كما يرافق الشاة راعيها خوفاً عليها من الذئب ، فان عجزنا عن ان ناخذ الآباء والاخوة والازواج ، بذلك، فلننفض أيدينا من الامة جميعها نسائها ورجالها ، فليست المرأة بأقدر على اصلاح نفسها من ارجل على اصلاحها.
7. تقليد:
أعجب ما أعجب له في شؤونكم أنكم تعلمتم كل شئ الا شيئاً واحد اً هو ادنى الى مدارككم ان تعلموه قبل كل شئ ،وهو ان لكل تربة نباتاً ينبت فيها ، ولكل نبات زمناً ينمو فيه!
رأيتم العلماء في اوربا يشتغلون بكماليات العلوم بين امم قد فرغت من ضرورياتها ، فاشتغلتم بها مثلهم في امة لايزال سوادها الاعظم في حاجة الى معرفة حروف الهجاء!
ورايتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة لها من عقولها وآدابها مايغنيها بعض الغناء عن ايمانها ، فاشتغلتم بنشرها بين امة ضعيفة ساذجة لايغنيها عن ايمانها شئ ان كان هناك مايغني عنه !
ورأيتم الرجل الاوربي حراً مُطلقاً يفعل ماشاء ويعيش كما يريد لأنه لايستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها انه قد وصل الى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخاها ، فأردتم ان تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الارادة والعزيمة، يعيش من حياته الادبية في رأس منحدر زلق ان زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها .
ورأيتم الزوج الاوربي الذي أطفأت البيئة غيريته وازالت خشونة نفسه وحُرشتها يستطيع أن يرى زوجته تُخاصر من تشاء ،وتصاحب من تشاء ، وتخلو بمن تشاء ؛ فيقف اما ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد ، فأردتم الرجل الشرقي الغيور المتلهب ان يقف موقفه، ويستمسك استمساكه.
ورأيتم المراة الاوربية الجريئة المُتفتية في كثير من مواقفها مع الرجال أن تحتفظ بنفسها وكرامتها فأردتم من المراة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها ، وتحتفظ بنفسها احتفاظها!
وكل نبات يزرع في ارض غير ارضه ، أو في ساعة غير ساعته ، اما أن تأباه الأرض فتلفظه ، واما ان ينشب فيها فيفسدها .
انا نضرع اليكم باسم (الله ،واضعين امامكم) الشرف الوطني والحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية الباقية من نساء الامة مطمئنات في بيوتهن ، ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم كما أزعجتم من قبلهن ، فكل جرح من جروح الامة له دواء الا جرح الشرف ، فان أبيتم الا ان تفعلوا فأنتظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الايام من صدروكم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدة سعداء آمنين.
8. انفتاح:
فما زاد الفتى على ان ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والصخرية ، وقال: تلك حماقات ماجئنا الا لمعالجتها فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها.
فقلت له: لك أمرك في نفسك واهلك فاصنع بهما ماتشاء ، وائذن لي أن أقول لك : اني لاستطيع ان أختلف الى بيتك بعد اليوم ابقاءً عليك وعلى نفسي ! لأني اعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امراة من أهلك تقتلني حياء وخجلاً.
ثم انصرفت ،وكان هذا فراق مابيني وبينه.
وماهي الا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله ، وان بيته أصبح مغشياً لاتزال النعال خافقة ببابه ،فذرفت عيني دمعة لا أعلم : هل هي دمعة الغيرة على العرض المُذال أو الحزن على الصديق المفقود؟
9. جريمة:
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها ، ولا يزورني ، ولا ألقاه في طريقة الا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب ، من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ، ثم أنطلق في سبيلي.
فاني لعائد الى منزلي ليلة أمس ، وقد مضى الشطر الأول من الليل ، اذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه او يقتاده فأهمني امره ،ودنوت منه فسألته عن شأنه؟ فقال:
لا علم لي بشئ سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني الى مغفر الشرطة ، ولأعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً ، وما أنا بالرجل المذنب ، ولا المُريب ، فهل أستطيع أن أرجوك ياصديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا ، علني أحتاج الى بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشؤون؟
قلت : لا أحب الي من ذلك.
ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ، ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يُزور في نفسه كلاماً يريد ان يُفضي به الي فيمنعه الخجل والحياء ، ففاتحته الحديث ، وقلت له : ألا تستطيع أن تتذكر لهذه الدعوة سببا؟
فنظر الي نظرة حائرة ، وقال : إن أخوف ما أخافه ان يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث: فقد رابني من أمرها انها لم تعد الى المنزل حتى الساعة ، وما كان ذلك شأنها من قبل.
قلت :أما كان يصحبها أحد؟
قال: لا.
قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت اليه ؟
قال: لا .
قلت : ومم تخاف عليها؟
قال: لا اخاف شيئاً سوى اني اعلم أنها امرأة غيور حمقاء ، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه ، فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها الى مخفر الشرطة.
وكنا قد وصلنا الى المخفر ، فاقتدنا الجندي الى قاعة المأمور ، فوقفنا بين يديه ، فأشار الى جندي أمامه اشارة لم نفهمها ، ثم استدنى الفتى اليه وقال له: يسوؤني أن أقول لك ياسيدي : ان رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل وامراة ، في حال غير صالحة ، فاقتادوهما الى المخفر ، فزعمت المرأة أن لها بك صلة ، فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها ، فان كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك اكراماً لك، وابقاء على شرفك ، والا فهي امرأة عاهرة لانجاة لها من عقاب الفاجرات ، وها هما وراءك فانظرهما .
وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى، فالتفت وراءه فاذا المرأة زوجته ، واذا الرجل أحد أصدقائه !! فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر ، وملأت نوافذه وابوابه عيوناً واذانا ، ثم سقط في مكانه مغشياً عليه ،فأشرت على المأمور أن يرسل المراة الى منزل أبيها ، ففعل ، وأطلق سبيل صاحبها .
ثم حملنا الفتى في مركبة الى منزله ، ودعونا له الطبيب، فقرر انه مصاب بحمى دماغية شديدة ، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليل يُعالجه حتى دنا الصبح ، فانصرف على أن يعود متى دعوناه ، وعهد الي بأمره فلبثت بجانبه أرثى لحاله ، وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رأيته يتحرك في مضجعه ، ثم فتح عينيه فرآني ، فلبث شاخصاً إلي هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيعه ، فدنوت منه وقلت له :
هل من حاجة ياسيدي؟
فأجب بصوت ضعيف خافت : حاجتي ان لا يدخل علي من الناس احد.
قلت : لن يدخل عليك الا من تريد.
فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان بالدموع.
فقلت: ما بكاؤك ياسيدي ؟
قال : أتعلم أين زوجتي الآن؟
قلت : وماذا تريد منها؟
قال: لاشئ سوى أن أقول لها : اني قد عفوت عنها .
قلت : انها في بيت أبيها .
قال: وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها ، فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاداً، فألبستهم مذ عرفوني ثوباً من العار لا تبلوه الأيام.
من لي بمن يبلغهم عني جميعاً أنني مريض مُشرف وأنني أخشى لقاء الله ان لقيته بدمائهم ، وأنني اضرع اليهم ان يصفحوا عني ويغتفروا زلتي ، قبل ان يسبق الي أجلي ؟
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عرضها صيانتي لحياتي ، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي ، فحنثت في يميني! فهل يغفر لي ذنبي ، فيغفر لي الله بغفرانه؟
نعم إنها قتلتني ! ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدته في صدري فلا يسألها احد عن ذنبي !
البيت بيتي ، والزوجة زوجتي ، والصديق صديقي ، وانا الذي فتحت باب بيتي لصديقي الى زوجتي ، فلم يذنب إلىٌ احد سواي.
10. يقظة:
ثم أمسك عن الكلام هنيهةً ، فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً ، حتى لبست وجهه، فزفر زفرةً خلت أنها خرقت حجاب قلبه ، ثم أنشأ يقول:
آه ما أشد الظلام أمام عيني ! وما أضيق الدنيا في وجهي ! في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف كنت أراهما جالسين يتحدثان فتملأ نفسي غبطة وسروراً، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفي يؤنس زوجتي في وحدتها ، وزوجة سمحة كريمة تُكرم صديقي في غيبتي ، فقولوا للناس جميعاً : إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ، ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله الى الغاية من البلاهة ، وغبي الى الغاية التي لا غاية وراءها.
والهفاً على أم لم تلدني وأب عاقر لا نصيب له في البنين.
لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ماكنت أجهل ولعلهم كانوا اذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم الى بعض ، أو يحدقون إلي ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل اليلاهة في وجوه البله ، والغباوة في وجه الأغبياء !
ولعل الذين كانوا يتوددون إلي ويتمسحون بي من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لامن أجلي ؟
ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم قواداً ويسمون زوجتي مومساً، وبيتي ماخوراً وأنا عند نفسي أشرف الناس وأنبلهم !
فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ساعة واحدة ، ووالهفاً على زواية منفردة في قبر موحش يطويني ويطوي عاري معي !
ثم أغمض عينيه ، وعاد إلى ذُهوله واستغراقه.
11. شك:
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده، تحمله على يدها ، حتى وضعته بجانب فراشه ، ثم تركته وانصرفت ، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا صدر أبيه ، فأحس به ، ففتح عينيه فرآه فابتسم لمرآه وضمه الى صدره ضمة الرفق والحنان وأدنى فمه من وجهه ليقبله، ثم انتفض فجأة واستسر بشره ، ودفعه عنه بيده دفعةً شديدةً وأخذ يصيح:
أبعدوه عني ، لا أعرفه ، ليس لي أولاد ولا نساء ، سلوا امه عن ابيه من هو ؟ واذهبوا به اليه ! لا ألبس العار في حياتي وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي .
وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت اليه ، وحملته وذهبت به ، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً فأنصت اليه واستعبر باكياً وصاح :
أرجعوه إلي ؛ فعادت به المرضع فتناوله من يدها وأنشأ يُقلب نظره في وجهه ويقول :
في سبيل الله يابني ما خلف لك ابوك من اليتم ، وما خلفت لك أمك من العار ، فاغفر لهما ذنبهما اليك ، فلقد كانت أمك امرأة ضعيفةً ، فعجزت عن احتمال صدمة القضاء فسقطت ، وكان أبوك حسن في جريمته التي اجترمها ، فأساء من حيث أراد الإحسان.
سواء أكنت ولدي يابُني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك حقبة من الدهر ، فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً !
ثم احتضنه اليه ، وقبله في جبينه قُبلة لا أعلم : هل هي قبلة الاب الرحيم ، أو المحسن الكريم؟
12. موت:
وكان قد بلغ منه الجهد ، فعاودته الحمى وغلت نارها في رأسه ، ومازال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفت عليه التلف ، فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرةً طويلةً ، ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً .
ثم بدأ ينزع نزعاً شديداً ويئن أنيناً مؤلماً فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا ارفضت عن كل ماتستطيع أن تجود به من مدامعها .
فإنا لجلوس حوله وقد بدأ الموت يُسبل أستاره السوداء على سريره وإذا امرأة مؤتزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ثم أكبت على يده الموضوعة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له :
لاتخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك ، فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب الى ربك ، أنها وإن كانت قد دنت من الجريمة ولكنها لم ترتكبها ،فاعف عني يا والد ولدي واسأل الله عندما تقف بين يديه أن يلحقني بك فلا خير لي في الحياة من بعدك .
ثم انفجرت باكية ..
ففتح عينيه ، وألقى على وجهها نظرة باسمة ، كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى !.
13. ختام:
….الآن عدت من المقبرة بعد ما دفنت صديقي بيدي ، وأودعت حفرة القبر ذلك الشباب النضر، والروض الزاهر ، وجلست لكتابة هذه السطور وأنا لا أكاد أملك مدامعي وزفراتي ، فلا يهون وجدي عليه، إلا أن الأمة كانت على باب خطر عظيم من أخطارها فتقدم هو أمامها الى ذلك الخطر وحده ، فاقتحمه ، فمات وحيداً …فنجت بهلاكه!!!